الرباط – شكل تحديث القضاء والرفع من جودته ولايزال خيارا استراتيجيا بالنسبة للمملكة المغربية، تحت القيادة المتبصرة لصاحب الجلالة الملك محمد السادس، الذي ما فتئ يوليه أهمية كبرى من أجل تحديثه وتأهيله وجعله رافعة لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
هذا الحرص الملكي المتواصل، تعزز في سياق الثورة التكنولوجية العالمية، التي فرضت على منظومة العدالة المغربية الانخراط فيها، عبر تسخير الثورة الرقمية لخدمة العدالة والقانون، مما دفع المغرب إلى التفكير في إحداث المحاكم الرقمية، والاستفادة من مميزاتها وخصائصها في أفق تحسين عملية التقاضي وتقوية النجاعة القضائية.
وفي إطار هذا التوجه، حظي مسار التحديث بشكل عام وإصلاح منظومة العدالة بشكل خاص بمكانة بالغة الأهمية في الخطب والرسائل الملكية السامية، حيث شكلت التوجيهات الملكية، التي رسخت مفهوما جديدا لإصلاح العدالة يقوم على مبدأ “القضاء في خدمة المواطن”، أساس المرجعية التي استند إليها هذا الإصلاح، وفي صلبه خلق محاكم رقمية تواكب التحولات المجتمعية والتكنولوجية على المستويين الوطني والدولي.
وقد أكدت الرسالة الملكية السامية الموجهة إلى المشاركين في الدورة الأولى للمؤتمر الدولي للعدالة بمراكش بتاريخ 02 أبريل 2018 على هذا المفهوم الجديد للإصلاح ، حيث دعا جلالته إلى ضرورة “تسهيل ولوج أبواب القانون والعدالة، عبر تحديث التشريعات لتواكب مستجدات العصر […] وتيسير البت داخل أجل معقول، وضمان الأمن القضائي اللازم لتحسين مناخ الأعمال[…] فضلا عن دعم فعالية وشفافية الإدارة القضائية، باستثمار ما تتيحه تكنولوجيا المعلوميات”.
وفي هذا السياق، جاءت توصيات ميثاق إصلاح منظومة العدالة، باعتباره “دستور” الإدارة القضائية، للتأكيد على ضرورة ارساء مقومات المحكمة الرقمية لتحقيق إصلاح شامل ومتكامل لمنظومة العدالة، حيث تم التنصيص على الهدف الرئيسي السادس المتعلق بتحديث الإدارة القضائية وتعزيز حكامتها، خاصة من خلال إرساء مقومات المحكمة الرقمية، وتحديث خدمات الإدارة القضائية وانفتاحها على المواطن.
ومن هذا المنطلق، أكدت السيدة سامية شكري، مديرة مديرية الدراسات والتعاون والتحديث بوزارة العدل، في حديث لوكالة المغرب العربي للأنباء، أن الالتحاق بركب المحكمة الرقمية “أضحى ضرورة ملحة، وليس خيارا استراتيجيا الغاية منه تطوير العدالة فقط، بل نقطة فاصلة بين مفهوم المحاكمة الكلاسيكية والمحاكم الحديثة المواكبة للثورة الرقمية” التي يعرفها العالم.
وأبرزت السيدة شكري، في هذا الصدد، أن المغرب يتوفر على ترسانة قانونية هامة، تدعم ركائز المحكمة الرقمية، وفي مقدمتها، على وجه الخصوص، الفصل 154 من دستور 2011، إضافة إلى مقتضيات القانون 05-53 المتعلق بالتبادل الالكتروني للمعطيات القانونية، ومقتضيات القانون رقم 09.08 المتعلق بحماية الأشخاص الذاتيين تجاه معالجة المعطيات ذات الطابع الشخصي، والقانون. 07.03 ﺑتتميم مجموعة القانون الجنائي في ما يتعلق بالقانون الجنائي المتعلقة بالجرائم المتعلقة بنظم المعالجة الآلية للمعطيات، علاوة على القانون 13-31 المتعلق بالحق في الحصول على المعلومات؛ القانون رقم 04.20 ا لمتعلق بالبطاقة الوطنية للتعريف الالكترونية؛ القانون رقم 72.18 المتعلق بمنظومة استهداف المستفيدين من برامج الدعم الاجتماعي وبإحداث الوكالة الوطنية للسجلات؛ القانون 43-20 المتعلق بخدمات الثقة بشأن المعاملات الالكترونية؛ القانون 55-19 المتعلق بتبسيط الاجراءات و المساطر الإدارية؛ القانون 54-19 بمثابة ميثاق المرافق العمومية.
وأوضحت السيدة شكري إلى أن الوزارة منكبة حاليا على إعداد مجموعة من مشاريع القوانين ذات الصلة بالتقعيد القانوني لاستعمال الوسائط الرقمية.
ولفتت المتحدثة إلى أن المحكمة الرقمية ستساهم في دعم الولوج إلى العدالة والقانون، والرفع من جودة الخدمات التي تقدمها المحاكم، ومن تقريب الإدارة القضائية من مهنيي القضاء والمتقاضين وتمكينهم من الاطلاع على مآل ملفاتهم وتتبعها في ظرف زمني قياسي وبأقل كلفة، مشيرة إلى أن الوزارة عملت على تطوير مجموعة من التطبيقات والبرمجيات التي تؤدي خدمات للمتقاضين والمرتفقين ومساعدي القضاء عن بعد ودون حاجة للتنقل إلى المحاكم، وهي خدمات يحتضنها الموقع الالكتروني www.mahakim.ma.
واستعرضت حزمة من الخدمات الموضوعة رهن إشارة المرتفقين، مشيرة في هذا الصدد إلى خدمات السجل العدلي والسجل التجاري وباقي مستخرجات السجل التجاري، وخدمة حجز المواعيد بمحاكم المملكة، والأداء الالكتروني للغرامات ومخالفات السير، والإيداع الالكتروني للقوائم التركيبية، إضافة إلى منصات مطورة لفائدة مساعدي القضاء، والتي تعتبر ثورة حقيقية، من قبيل منصة المحامي للتقاضي عن بعد والتي تمكن المحامين من تقديم المقالات والمذكرات بدون الانتقال الى المحكمة.
في المقابل، توقفت السيدة شكري عند بعض الاكراهات التي تواجه التنزيل الأمثل للمحكمة الرقمية، والتي أجملتها، في ازدواجية العمل الرقمي والورقي، حيث لا تزال معالجة بعض الملفات تنفذ بالسجلات الورقية موازاة بالأنظمة المعلوماتية، مما يرهق موظفي المحاكم من حيث الوقت والجهد المبذول؛ وحدودية الخدمات الرقمية المتاحة للمتقاضين والمرتفقين، وهو ما تعمل الوزارة على تجاوزه من خلال وضع المرتفق في صميم اهتمام الإدارة القضائية، وتطوير خدمات تستجيب لمتطلباته؛ علاوة على الضعف المسجل في تكريس مفهوم الوثيقة الرقمية؛ وعدم جاهزية بعض المساطر المعمول بها مستوى المحاكم للتحول الرقمي.
وفي سياق متصل، اعتبر السيد عـتيق السعيد، الباحث الأكاديمي والمحلل السياسي، في تصريح لوكالة المغرب العربي للأنباء، أن المغرب نجح في الرفع من جودة التقاضي عبر إجراء المحاكمات عن بعد في سياق جائحة كوفيد 19، بإطلاق هاته التجربة الرائدة والواعدة التي عرفتها منظومة العدالة كآلية تقنية تندرج في إطار تحديث المرفق القضائي ضمانا لاستمرار المحاكم في القيام بمهامها الدستورية، وتكريسا للحق في محاكمة عادلة داخل آجال معقولة، بالإضافة الى ربح الوقت وادّخار الجهد، وكذا ترشيد الموارد المالية والبشرية.
واعتبر أن اللجوء إلى تقنيات التواصل عن بعد في إجراءات التقاضي لا ينقص من ضمانات المحاكمة العادلة، لكونها وسائل لا تتعارض مع حقوق الدفاع كما تضمن تيسير استمرارية منظومة التقاضي، مضيفا أن المشروع الجديد الذي يهدف إلى استعمال الرقمنة في جميع مراحل الدعوى العمومية بنفس الضمانات الممنوحة للأطراف خلال المحاكمات ذات الحضور المادي وبترتيب الأثر نفسه، يعتبر مشروعا واعدا سيمكن الجهاز القضائي من مسايرة التحولات البنيوية التي تعرفها الإدارة، كما أنه يتقاطع في غاياته مع الرؤية الاستراتيجية للنموذج التنموي الجديد، وسيتيح أيضا الانفتاح على التجارب الرائدة المعمول بها دوليا.
وسجل السيد السعيد أن صدور قانون ينظم المحاكمات الافتراضية يشكل ضرورة تفرضها الحاجة الى إجراء المحاكمات عن بعد ما بعد جائحة كورونا، نظرا لما تتيحه هاته الآلية من ترشيد للنفقات المالية المرتبطة بالنقل من المحاكم الى المؤسسات السجنية وموظفيها، وكذلك حماية الشهود والمبلغين وتسريع الإجراءات، مشددا على تحقيق هاته الغاية رهين بتسريع مراجعة المسطرة الجنائية حتى تتلاءم مع المعايير الدولية ومع مستجدات المحاكمة عن بعد، بالإضافة إلى التحضير الجيد والكافي للموارد الأساسية لتجاوز كل الاكراهات وكذا الصعوبات التي قد شهدتها انطلاقة هذه المحاكمات في نمطها الرقمي.
واعتبارا لأهمية هذا الإصلاح في مسار تحديث منظومة العدالة، يمكن القول إن اعتماد المحاكم الرقمية يظل من أبرز الأوراش التي انخرطت فيها المملكة في سعيها الدؤوب نحو تعزيز التطور العلمي والتقني في مجال العدالة، وذلك لما سيكون لها من آثار إيجابية تشمل سرعة انجاز المعاملات وتوحيد وتبسيط إجراءات التقاضي والمساهمة في أمن المعلومات وإتاحتها للعموم، علاوة على ضمان جودة العمل ومواكبة التطور، وبالتالي دعم مسيرة التحديث التي يقودها جلالة الملك محمد السادس.